٤،١١،٧٦ - قاضي الجيران
إعتاد أهل قرية أن يجتمعوا في ساحة القرية بعد صلاة الجمعة ، فإن كان لأحد عند أحد مظلمة، حكموا بينهما رجلا سموه باشم (قاضي الجيران.
وقد مرت عليهم فترة طويلة من الزمن، لم يتقدم أحد منهم بشكوى إلى هذا القاضي، فكل واحد من أهل القرية عرف ما له وما عليه من الحقوق والواجبات، وأدرك أن السعادة والسلامة مرتبطتان بالوقوف عند الحق، والالتزام به، وظلوا على تلك الحال، حتى سكن في قريتهم رجل من قرية أخرى، فكثرت ضده الشكاوى وثار الجيران من معاملته . ولم يكن هذا الرجل الغريب يعرف سببا لتضجر الناس منه، والابتعاد عنه.
وفي أحد الأيام. عاد القاضي إلى القرية، فوجد الناس غاضبين على الرجل الغريب وطلبوا أن تعقد المحكمة قبل الصلاة على غير العادة.
وافق القاضي، وحضر الرجل الغريب. واجتمع أهل القرية، فوجد القاضي أكثر من شكوى ضد ذلك الرجل. فقال مخاطبا نفسه : لعل ذلك الرجل قتل الأبرياء وسرق الأموال واعتدى على الأعراض. وعلى كل حال لا أستطيع أن أنطق بالحكم ما لم أستمع من المتخاصمين جميعا.
تقدم المشتكي الأول وقال: أيها القاضي المحترم، إن هذا الجار لا يعرف لي حقا!
دهش الرجل الغريب: فهو لا يذكر أنه اعتدى عليه، أو أكل ماله !
قال القاضي : وماذا فعل؟
قال المشتكي: لقد طلبت منه أن يعينني على رفع كيس من القمح فنظر إلي باستغراب، ودخل بيته.
قال القاضي: هذه واحدة، وماذا أيضا؟
قال المشتكي : وطلبت منه أن يقرضني مبلغا من المال فرفض.
قال القاضي: وماذا أيضا؟ اذكر كل ما لديك.
قال المشتكي : ومرضت أسبوعا ، فلم يأت لزيارتي، ونجح ابني ، فلم يشاركني في فرحتي، وتوفي والدي فلم يطرق باب منزلي، ليعزيني ويخفف عني، ولم يخرج معنا إلى المقبرة.
قال القاضي : هل لديك شيء آخر؟
قال المشتكي: ليس لدي شيء آخر أقوله، ولا أريد أن أتهمه بما لم يفعل.
قال القاضي: بارك الله فيك. فإن اتهام الناس بما لم يفعلوه يوجب غضب الله تعالى التفت القاضي إلى الرجل الغريب وقال: هل ما قاله جارك صحيح؟.
قال الغريب: نعم أيها القاضي. ولكنني لم أعتد عليه ولم أضربه، ولم أدخل بيته بغير إذنه، ولم أقطع غصنا من أشجار بستانه، ولم أقترض منه مالا ، وأماطل في الدفع فكيف يقول إنني لا أعرف حقه ؟!
قال القاضي: كل ما ذكرته طيب وحسن ، ولكن لا يكفي عدم الاعتداء على الجيران، حتى يعد ذلك إحسانا إليهم، فربما كانوا محتاجين لمعونة أو لمال ، وعندما تمتع عن إعانتهم ووإقراضهم تكون قد أعنت المصائب والفقر عليهم، فهل ترضى بذلك؟
قال الغريب بالطبع لا أرضى
ثم طلب القاضي من رجل آخر أن يتقدم ليستمع إلى شكواه، فتقدم رجل كبير السن
وقال هذا الشيخ أيها القاضي، أنصفني من هذا الجار، إنه يؤذيني في الليل والنهار، لقد نقص علي حياتي وحرض علي أبنائي، وكاد يفقدني سعادتي في منزلي:
تعجب الرجل الغريب مما قاله الشيح فهو لا يكاد يراه في الأسبوع إلا مرة، وهو لا يذكر أنه تدخل في شؤون حياته، ولا كلم أولاده نظر القاضي إلى الغريب وقال: هل هذا الكلام صحيح؟
قال الغريب : أيها القاضي إنني لا أذكر شيئا مما يقوله هذا الرجل، فهل لديه دليل ؟ !
قال القاضي للمشتكي: هل لديك دليل أيها الرجل؟
قال الشيخ : نعم، أيها القاضي: إن هذا الرجل يمنع عني الشمس والهواء.
قال القاضي : هات ذليلك.
قال الشيخ: من مالك الشمس والهواء؟
قال القاضي : الله رب العالمين. خالق كل شيء .
قال الشيخ: فكيف إذن يمتعني هذا الرجل منهما ؟ ! !
قال القاضي: كيف؟
قال الشيخ لقد رفع بناءه. وأعلى جدرانه دون أن يطلب مني إذنا بذلك. وقد منع عن داري المتواضعة ضوء الشمس وحجب عني الهواء العليل..
قال القاضي: ثم ماذا أيها الرجل العجوز؟
قال الشيخ وقد دمعت عيناه : إنه يؤذيني. ويشعرني بفقري واحتياجي.
قال القاضي: وكيف هذا؟
قال الشيخ إنه يطعم الطعام، ويشوي اللحم فتنتشر رائحة الشواء. وتنطلق زوائح الطعام. مما يجعلنا نشتهي ونزهد فيما في أيدينا من طعام قليل . وجاري لا يتذكر أننا أيضا بشر مثله، لا يفكر - ولو مرة واحدة أن يبعث لنا شيئا مما طبخ بدا الحزن على وجه القاضي، وتأثر الحاضرون، واستحيا الرجل الغريب من كلام الشيخ.
نظر الحاضرون إلى وجه الرجل الغريب، وقد احمر حجلا ، ونظروا إلى عيني الشيخ، وقد ملأتهما الدموع والتفت القاضي إلى الغريب يسأله:
هل ما قاله الجيران صحيح؟
أجاب الغريب بصوت منخفض : نعم، وإني أستغفر الله مما فعلت
قال القاضي : إن لجيرانك عليك حقوقا كثيرة بينتها الشريعة. وكان رسولنا الكريم يوصينا بالجار دائما. فما بالك لا تفي بحقوق الجيران؟